الفصل الأول

في أحد أركان البيت الكبير بهيج اللون كانت هناك فتاة تبكي يأس وحرمان مما سمعته في الليلة الماضية من أخيها وهو يقول لحبيب قلبها المغفل: مبروك, وإن شاءالله أنا أول الحاضرين لعرسك يا "سلطان".

لم تعش حوراء ألم نهش قلبها وأهلك جسدها كالألم الذي بدأ حينها من صدمتها الأولى في حياتها التي كانت تعتقد بأنها ستكون مملوءة بمشاعر الحب والعشق مع حبيبها أو الذي كان حبيبها "سلطان". أصبح الخذلان الأول والانكسار الأول والموت الصغير الأول لها من "سلطان" الذي خالت بأنها ستواجه كل هذه الصعوبات معه وليس بسببه.

عادل الصديق المخلص لسلطان, والمهتم بحوراء, استيقظ في الصباح متعب ومتأخر على عمله فقد سهر بالأمس مع صديقه يتحدثون عن تكاليف العرس باهظ الثمن وكيف ستدار المصاريف ووووو. أسرع في الانتهاء وخرج إلى غرفة حوراء ليلقي عليها التحية ويخبرها بأنه ينتظرها في الأسفل ليقلها إلى الكلية "كعادته" ولكن من غير المعتاد أن ترد عليه حوراء بصوت مكسور: ما بداوم اليوم توكل الله يحفظك.

عادل: ليش؟ مب عندج فاينل اليوم وأمس العصر تزنين ع راسي ماتبين تتأخرين!

حوراء: لا بس تعبانة شوي.

انتبه عادل لنبرة صوتها, هذه ليست نبرتها المعتادة! ولا حتى في حالة مرضها. ماذا بها؟

عادل: على خير.

تربت حوراء على يد أخوانها بالترتيب من الأكبر إلى الأصغر: عبدالله وأحمد وعادل. فقد توفيا والديهما في حادث أثناء توجههما للمطار حيث كان من المقرر أن يقضيا شهر عسل جديد في سويسرا. ولكن ماشاءالله كان ومالم يشأ لم يكن, أصبحوا مترابطين ومتعاقدين على حمل الثقل والاعتماد على أنفسهم في مواجهة الحياة وخصوصًا تربية حوراء والذي كان الأمر الأصعب بالنسبة لهم. وعاشت أنثى مدللة وعلى الرغم من أنها كانت الوحيدة بين "أخوانها" ألا إنها لم تمتلك صفة صبيانية واحدة! بل صفاتها تمحورت حول الاتكالية والنقاء والحب والتردد فلم تكن قوية كقوتهم ولم تكن فطنة كفطنتهم لأنها افتقدت والدتها كثيرًا وهي الثقب الأسود في شخصيتها والتي تظن بأنها السبب الرئيسي في ضعفها.

أحمد كان الأقرب إليها والأحن عليها فهو ملجأها في كل مشكلاتها على الرغم من وجود سلطان "سابقًا" في حياتها ولكن لم تثق به كثقتها بأحمد.

لم تتردد حوراء أبدًا بأن تتصل بأحمد وتفضفض له بما يؤلم داخلها فكانت تظن أن انتهاء علاقتها بسلطان تعني برود ردة فعل أحمد ووقوفه معها على الرغم من خطأها: أحمد.

أحمد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؟ ليش ما تسلمين ويا ويهج.

أجهشت حوراء حينها بالبكاء وبقوة مع شهيقها الذي أفجع قلب أحمد.

أحمد: خير شو مستوي ليش تصيحين؟ مستوي شي بعادل؟ مستوي شي فالبيت؟

لم ترد حوراء بسبب غصتها التي قيدت كلماتها وعقدت لسانها.

أحمد: الحور حبيبتي هدي شوي قولي شو بلاج عشان أعرف شو السالفة وأقدر أرد عليج والله تراني زيغان, خبريني رحم الله والديج.

حوراء: أنا, أنا اللي مستوي فيني يا أحمد, والله اني مخنوقة وماقدر أقولك كل شيء بس أنا تعبانة وايد, قلبي يعوورني أحسني بموت الله يخليك تعال البيت.

أحمد: بسم الله, استغفري ربج شو بتموتين عن هالخرابيط ومابا اسمع هالرمسة منج مرة ثانية, هه أونه بموت, مع إني فالدوام لكن بستأذن وياينج ولا تصيحين سيري اغسلي ويهج وهدي عمرج لين أوصل حبيبتي أنتي.

صحيح بأن حوراء ترى أحمد أقرب أخوانها إليها ولكن أحمد يرى عبدالله هو الأقرب له والأدرى بنفسه وحاله, فكل شيء تفصح به حوراء لأحمد, كان يفصحه أحمد لعبدالله, ويفصحه عبدالله لعادل لأنه مستشاره في كل شيء ومستخرج جميع الحلول. والصدفة الأجمل في حياة أحمد هي عندما نُقل عبدالله إلى مقر عمل أحمد ليصبح مديرًا عليه, فهذا أراح عقل أحمد لأنه يفكر بأن عبدالله هو خلاصه من كثرة الأعمال وواسطته لأحلى الترقيات.

على عكس عبدالله, الشديد والقوي والذي يضع وحدة الدم جانبًا في العمل, فالعمل عمل بالنسبة له ولا فرق لأخيه عن باقي العاملين, فعلى الرغم من مكر أحمد ومحاولته على "اللف والدوران" حول عواطف عبدالله ألا أن عبدالله يكشفه في كل الأوقات.

خرج أحمد من مكتبه الذي يتشاركه مع زملاؤه في العمل متوجهًا إلى مكتب المدير العام, دخل بدون استئذان وهو يغني بصوته الجميل ويتحرك على حسب الإيقاع: حبيبي صباح الخير, صباحك ورد وفل ولوز .. ضحك عبدالله وقاطعه.

عبدالله: خير شعندك من الصبح رايق؟

أحمد: واللي يشوف ويهك شو تباه يسوي غير أنه يروق

ويكمل الغناء: الشمس طلعت يا زين، وانت مغمض العينين.

عبدالله: بس بس بييني صداع من هالصوت, أخلص قول شوتبا بسرعة وراي مليون شغلة وشغلة.

أحمد: شوف هالمرة صدق بروح لحوراء دقت لي تصيح مادري شو بلاها ولما دقيت لعادل قال أنها مب مداومة.

عبدالله: عن الخرط يلا توكل ع مكتبك اليوم الشغل متكود عليكم ترا.

أحمد: عبدالله صدقني حوراء دقت توها حتى تريا. يخرج هاتفه من جيبه الأيمن.

عبدالله: يا حبيبي ماتمشي علي, تحيد آخر مرة شو سويت؟ بنفس العذر حوراء وحوراء وآخر شيء اشوفك داخل الدوام بأجياس براتا وكيما "يضحك مستسلمًا".

أحمد: ياخي والله كنت يوعان وأكلكم مايعيبني ولازم أعزم ربعي بعد مايصير! "وبنبرة جادة وهدوء واهتمام" : لكن هالمرة دقت حوراء , مادري شو بلاها, يعني حتى هي كل يوم تنزل تفطر قبل ما تتجهز لكن هالمرة صحنها فاضي والأكل مكانه لكن أحسها سوالف بنات وأكيد هي مكبرة الموضوع تدريبها حساسة.

عبدالله: صدق أنا بعد لاحظت, خلاص روح الله يحفظك لكن أرجع بسرعة ولا تتأخر.

أحمد: إن شاءالله.

سند عبدالله رأسه على الكرسي وأغمض عينيه وهو يفكر بحوراء واضعًا يديه على جبهته, غارقًا بدوامة الأحداث, أحداث نمو حوراء ونضجها ويقول في داخله: كبرت منغلقة على نفسها, حتى على بنات خالتي فاطمة, ماتعبت عمرها بأنها تزورهم ولا تسلم عليهم إلا بالأعياد, كم مرة حاولت أقرب عفرا منها ولكن ماشي فايدة, لازم تتعود عليها أو تتقبلها عالأقل لأنها بتكون جزء من روتينها في المستقبل ولكن كيف؟

عفراء, هي التي استطاعت بأن تسلب قلب عبدالله منه منذ صغره, ليس بسلاح جمالها ولا بعذوبة صوتها بل بعفويتها التي لامست قلبه وأشغلت باله عليها إلى أن أحبها وتعلق بها, وبقت سرًا بينه وبين نفسه, لا أحد يعلم عن حبه لها سواه. كبر وكبر حبه لها معه وخطط كثيرًا لمستقبله معها ولم يشعر أحد بما في داخله أبدًا, فقد كان كتوم جدًا وحتى عادل لم ينتبه لهذا الحب المتأصل منذ الصغر.

وصل أحمد وألقى التحية على المزارع الذي يهتم بالنخيل كاهتمامه بزوجته, العاملة المنزلية. دخل مسرعًا وهو ينادي حوراء بأعلى صوته: حوراااء وينج أنا يييييت.

لم يتلقى أي رد فصعد إلى الأعلى متجهًا نحو غرفتها وطرق على الباب عدة مرات ولم يتلقى أي رد مرة أخرى! .. حرك يد الباب إلى الأسفل فوجده مقفل, ليس من عادة حوراء بأن تقفل الباب أبدًا, نزل إلى مكتب المنزل وأخذ نسخة من المفتاح وتوجه إليها وعندما أدخل المفتاح في مقبض الباب وفتحه, صرخ مندهشًا: الحور!!!

- انتهى.